إشراقة 

بين التقارب الجسمانيّ والتقارب الروحانيّ

 

 

 

 

 

 

       قد تتباعد الأجسامُ ، وتتقارب القلوبُ والعقولُ . وقد يكون عكسَ ذلك ؛ فتتقارب الأجسامُ ، وتتباعد القلوبُ والعقولُ . وقد يجتمع الأمران ؛ فتتقارب الأجسامُ والقلوبُ والعقولُ معًا . تقاربُ الأجسامِ قد يكون حسّيًا ، وقد يكون معنويًّا ، وقد يكون حسيًّا ومعنويًّا معًا. فالحسيُّ أن ترى شخصين جالسين أو قائمين أو نائمين قريبًا أحدُهما من الآخر بإرادة أو بغير إرادة . والمعنويُّ أن تكون بين شخصين قرابةٌ قريبةٌ أو بعيدةٌ؛ فمهما كانا في مكانين مختلفين بعيدٍ أحدُهما عن الآخر قليلاً أو كثيرًا؛ ولكنّهما قريبٌ أحدهما من الآخر قربًا لايزول مهما أنكر أحدُهما أو كلاهُما أنه ليس أحدهما قريبًا إلى صاحبه . فالأبُ – مثلاً – مهما صَرَّحَ بأن ولَده ليس ولدًا له ، فإنّ ولديّتَه له لن تزول في واقع الأمر .

       والعقولُ والقلوبُ تتقارب باتّحاد الفكر وتجانسه، سواء أكان الفكر عقديًّا دينيًّا، أو حزبيًّا جماعيًّا، أو وطنيًّا، أو قوميًّا، أوسياسيًّا، أو موقفيًّا، أو وظيفيًّا، أو لغويًّا. وقد تجتمع أنواع الفكر هذه كلُّها وغيرُها؛ ولكنها كثيرًا ما – بل في الأغلب – تنفرد. وأقوى أنواع التقارب العقلي القلبي يتحقّق لدى الاتحاد والتجانس العقدي الدينيّ؛ لأنه أقوى أنواع الأواصر؛ حيث لم يعرف الإنسان آصرةً أمتنَ وأفعلَ وأجملَ من هذه الآصرة النزيهة الطيّبة، الحبيبة المقدسة، الدائمة الحضور، القوية المفعول، المثمرة في كل فصل، المخضرّة على كل حال، النامية رغم مناوأة الطقوس، وشحّ المطر، ونبوّ المناخ.

       شخصان مُتَّحِدان في العقيدة والدين – ولو كان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب – يشعران كأنهمان قريبان متصلان. فلو اجتمع الاتحاد في الدين والعقيدة مع الاتحاد في العواطف والمشاعر، يشعر الشخصان كأن أحدهما حالّ في صاحبه، وكأن قلبه يخفق بما يخفق به قلب الآخر، وكأنه يرى مايراه، ويتوصّل إلى ما يتوصّل إليه، ويفكّر نفسَ التفكير الذي يفكّره هو، وكأنهما شخص واحد متمثّل في قالبين .

       وعلى عكس ذلك شخصان متقاربان مُتَّصِلان جسمًا يتباعدان تباعدَ السماء والأرض، إذا اختلفا عقيدةً ودينًا وعاطفةً وشعورًا. يرى الناظرُ أن أحدَهما جالسٌ إلى الآخر أو ساكن أحدُهما مع الآخر في مكان واحد، في غرفة واحدة أو بيت واحد؛ أو تجمعهما قرابةٌ وشيجةٌ أو آصرةٌ مُتَشَابـِكَةٌ؛ ولكنهما يختلفان فكرًا؛ فيتباعدان عقلاً، وينفصلان قلبًا، ويستوحشان ذهنًا.

       كثيرًا ما يحدث أن المرأ يساكن غيرَه دهرًا، أو يجاوره، أو يزامله في العمل، أو يشاركه في التجارة أو الصناعة؛ حتى يعاشره ويؤاكله ويشاربه، ويشاطره كثيرًا من الاهتمامات والهوايات؛ ولكنّه يظلّ بعيدًا عنه بفكره المغاير لفكره، ودينه المعارض لدينه، وعقيدته المخالفة لعقيدته، وعواطفه التي لاتلتقي مع عواطفه على طول الخطّ وعرضه، وسلوكه العام في الحياة الذي لاينسجم مع سلوكه بشكل. شخصٌ بجنب شخص وجسمٌ يلاصق جسمًا قد يمكن – بل كثيرًا ما يحدث – أن يفكّر القلبُ الذي يحمله صدرُه بغير الذي يفكّر فيه القلبُ الذي يحمله صدرالآخر فهذا يفكّر في الخير، وهذا يفكّر في الشرّ؛ وهذا يفكر في شخصه ومصالحه المحدودة، وهذا يفكّر في الفساد والإفساد؛ وهكذا .

       فالقرب الجسماني المجرد لايغني غَنَاءً إذا لم يقارنِ بشكل القربَ الروحاني؛ ولكن القرب الروحاني المجرّد من القرب الجسماني بمستطاعه أن يعطي مفعولَه كاملاً. أما إذا اجتمع القربانِ فيزداد فعلُه – القرب الروحاني – ويقوى أداؤه، ويكثر نشاطه.

       قد يجوز أن يُوْلَدَ جسمان على فراش واحد وينموان عليه؛ بل قد يجوز أن يولدان من أب وأمّ، ويختلفان فكرًا وعقيدةً ومنهجَ حياة. وقد سبق أن تَرَبَّىٰ المُوَحِّد الداعي إلى التوحيد على عين المدّعي الأكبر للألوهية: تَرَبَّى سيدنا موسى في قصر فرعون وعلى نفقاته ورعايته وعنايته. وسبق أن تَرَبَّى الولد المُوَحِّد على فراش الوالد المشرك الصانع البائع للأصنام: تَرَبَّى سيدنا إبراهيم الثائر الأكبر على الوثنيّة الكاسر الأكبر للأصنام على فراش أبيه آزر. كم كانتِ المسافة بين العقليتين؛ وكم كان البعد بين التفكيرين؟ .

       الاتّحادُ الفكريُّ الدينيُّ العقديُّ العاطفيُّ أفعلُ الاتّحادات التي يمكن أن تتحقق بين إنسان وآخر. وبكلمة أخرى: النسبُ الدينيُّ أقوى من النسب الطينيّ، والأوّلُ حالاًّ في الآخر يكون أنفعَ وأحسنَ ما يكون. والثاني مُجَرَّدًا من الأوّل لاينفع إلاّ قليلاً، وبشروط.

       كثيرًا ما عاشرتُ إنسانًا زمنًا طويلاً، أو عاملتُه كثيرًا؛ ولكنّ الاختلافَ في الدين والعقيدة، أو العواطف ومذهب التفكير، ظلّ حائلاً بيني وبينه بشكل شعرتُ كأن جبال «هملايا» تفصل بيني وبينه أو السدّ الإسكندريّ الذي لايمكن اختراقُه، وظلتُ أستوحش منه استيحاشَ الإنسانِ من السباع الضارية أو استيحاش المؤمن المخلص المتعبّد من الكافر الفاجر المستهتر. الإنسان عُجِنَتْ طينتُه بالأنس . والأنسُ لايحصل مع الافتراق في الأفكار والآراء والمشاعر والعواطف؛ فكيف بالافتراق في العقيدة والدين وأسلوب التفكير والعمل؟.

       ربما انعقدت بيني وبين إنسان من قرية غير قريتي، ومن وطن بعيد بعدًا شاسعًا عن وطني، لم تجمع قطُّ بيني وبينه قرابة أو نسب، صداقةٌ وطيدة قائمة على غير غرض – اللهم إلاّ الاعتراف المتبادل بالفضل والأهلية – لن يحلّها بإذن الله إلاّ الموت، ولن يضرّها وشايةُ واشٍ أو نميمةُ نمّام. وربّما حلّت بيني وبين إنسان من قريتي أو مدينتي، تجمع بيني وبينه آصرة من النسب، وملاعبُ الصبا، ومدارجُ الطفولة، ودروبُ الكُتّاب، وحاراتُ المدرسة الأوليّة، ومشواراتُ الدراسة كلّها، وكثيرٌ من الهموم التي يَتَوَزَّعُها الأترابُ، وأنواعٌ من الهوايات التي يَتَقَاسَمُها الِّلداتُ في مُنْتَزَهات الحياة عندما يكونون لِدَانَ الأعواد.. حلّت عقدةٌ من الكراهية لم تحلّها محاولةٌ. والفرقُ بين الأوّل والآخر لم يكن إلاّ التوافقَ في الأفكار والعواطف بيني وبين الأوّل ، والتخالفَ بيني وبين الثاني في مسيرة التفكير وأسلوب العمل ومقياس الرضا والكره، والخيار والرفض .

       وقد صدق الشاعر العربيّ الحكيم أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبئ (303هـ / 915م = 354هـ / 965م) عندما قال:

وَمَا قَرُبَتْ أَشْبَاهُ قَوْمٍ أَبَاعِـــدٍ

وَلاَ بَعُدَتْ أَشْبَاهُ قومٍ أقارِبِ

       ربما وجدتُ في شخصِ إنسان أجنبيٍّ أخًا، كان أصدقَ أخوّةً من الأخ الذي وَلَدَتْه أمّي ورَبَّتْه في حضنها الحاني؛ لأنه شاركني بمواساته الصادقة، وعَرَفَ عواطفي معرفةً لم تختلف عن معرفتي بها؛ فتَعَامَلَ معي صادرًا عن مراعاتها الدقيقة؛ ولأنّه قَدَّرَ مشاعري تقديرًا ربما فاق تقديري لها؛ ولأنّه حَاوَلَ أن يكسح عن طريقي الأشواكَ كسحًا ربّما لم أقدر عليه؛ ولأنّه لاَحَظَ مواقفَ رضاي وسخطى ملاحظةً عجزتُ عنها؛ ولأنّه شَقِيَ أحيانًا كثيرةً والابتسامُ يرقص على شفتيه لأَسْعَدَ أنا؛ ولأنّه استعذبَ العذابَ ليجمع لي كلَّ وسيلة ممكنة من وسائل الراحة والسرور والعافية؛ ولأنّه كثيرًا ما تَعَهَّدَني بالسَّهَر والتألّم عندما وَجَدَني أشكو ألمًا في جسمي أو انحرافًا في صحّتي أو خَالِجَةً فكريّة. وما أَرْوَعَ المثلَ العربيَّ: «رُبَّ أَخٍ لم تلده أمُّك».

       الاشتراك في النسب الطيني لايعطي نفعًا مرجوًّا إلاّ إذا صَاحَبَه الاشتراكُ في النسب الدينيّ. والاشتراكُ فيه أيضًا لاينفع إلاّ إذا كان هناك شعورٌ بقيمة هذا النسب الرفيع. وهذا الشعورُ لايتحقّق إلاّ إذا كان هناك شعورٌ بقيمة الدين فتعليماته في شأن الدين والدنيا. وإذا تَحَقَّقَ ذلك كلُّه، يَتَحَقَّقُ عفويًّا الاتحادُ في الأفكار والعواطف، فالاتّحادُ في السلوك والعمل، فالاتحادُ الروحانيُّ المعنويُّ المثمرُ الذي ينفع صاحبَه، وكلَّ من حوله، وكلَّ من يتعارف عليه، ويتعلّق به، ويتعامل معه بشكل.

       فالإنسان بجنب الإنسان قد يشعر بما يشعر به إذا كان بجنب حيوانٍ مفترس أو سبع ضار، فلا يأمنه ولايرتاح إليه، فضلاً أن يسكن إليه ويستأنس به، ويرجو منه مايرجوه الإنسان من الإنسان مثله من المساعدة لدى الحاجة، والإمساك بيده إذا زلّت قدماه في مزلق، وإيناسه لدى شعوره بغربة، أو مسح دموعه إذا أَلَمَّ به حزنٌ. إنّ الإنسان لايتعامل مع الإنسان بمثلِ هذا إلاّ إذا اتّحد معه في المعاني الإنسانيّة السامية التي أشرتُ إليها، وأشدتُ بها، وأبديتُ حرصي عليها. أمّا إذا تَخَلَّىٰ منها، فإنه بالنسبة إلى غيره من الإنسان كالشبح المخيف يراه في الليل المظلم، فتذهب به الظنونُ مذاهبَ.

       مُجَاوِرُك الإنسانُ إذا لم يَتَّحِد معك في المعاني التي تجعله يشعر بما تشعر به أنت؛ فلايكون وجودُه وعدمُه بجنبك سواءً فقط؛ بل قد يُسَبِّب لك وجودُه بجنبك أضرارًا نفسيّة أو جسمانية أو ماليّة أو فكريّة، وربّما يُسَبِّب هذه الأَضرارَ بأنواعها كلّها، إلاّ أن تتجنّبها بحكمتك أو تدفعها بقوتك. يتأذّى الإنسان من الإنسان نفسيًّا قبل أن يتأذّى منه جسمانيًّا أو ماليًّا أو فكريًّا إذا لم يكن إنسانًا مثلَه في الخير، وإنما كان شيطانًا أو تلميذًا بارًّا من تلاميذه مُتَمَثِّلاً في الجسم الإنسانيّ والهيكل البشريّ. أنت ستظلّ دائمًا في تعقيدات نفسيّة، ومخافة مجهولة، بجنب إنسان يشاركك في صورة اللحم والدم، ولايشاركك في العقيدة والدين، والعواطف والأفكار، والمعاني الإنسانية النبيلة؛ لأنك وهو على طرفي نقيض؛ فربما أنت ترتاح إذا لم يكن مثلُه بجنبك ارتياحًا لن تتمتع به وهو معك. وجودُه بجنبك لم يُذْهِب أيَّ شيء من الوحشة التي يشعر بها الإنسان في مكان خالٍ من الإنس، وإنما زادك تعقيدًا ومخافة أنت لاتتبيّن نوعيّتها؛ فتُسَاوِرُك الوساوسُ، وتؤذيك الخَوالِجُ، وتتدافع بك الأفكار التي أنت لاترغب فيها.

       يسكن بجنب بيتي على غَلْوَة منه أسرةٌ من أبناء ديانة غير ديانتي منذ الزمان القديم: منذ عهد الأجداد؛ ولكنها بما أنّها لاتشاركنا في العقيدة والدين، فلاتشاركنا في المشاعر والأفكار، فنشعر منها بتوحّش لاتصفه الكلمات بدقة. وأناسٌ لقيتُهم في الحرمين الشريفين: هذا من أقصى الشرق، وذاك من أقصى الغرب، وذلك من الأنحاء النائية من بلاد الله؛ ولكني شعرت كأنهم جميعًا أشقاء لي؛ لأنهم فعلاً أشقاء في الدين والعقيدة، والهدف والمصير، وكثير من الأفكار والعواطف.

       رجلٌ عاملتُه طويلاً، وكان يقوم بطبع أعداد مجلتنا «الداعي» منذ سنوات طويلة. وكنتُ دائمًا أُحْسِن معه السلوكَ، وألاطفه في اللقاء، وأُبَادِر إليه بالتحية والدعاء؛ ولكنّه ظَلَّ عبر هذه السنين على جفافه وخشونته في الخلق وفظاظته في المعاملة، وعدم مجازاته الإحسانَ بمثله؛ فاضْطُرِرْتُ أن أبحث عن أصله ونسله الفكريّ، فأُحِطْتُ علمًا بأنه رغم كونه مسلمًوقظاظته في المعاملة، وعدم مجازاته الإحسان بمثله؛ فاصْطُرِرْتُ أن أبحث عن أصله ونسله الفكريّ، فأُحِطْتُ علمًا بأنه رغم كونا بالاسم ينتمي إلى المذهب الفلاني، الذي يُعْرَفُ أبناؤُه بالجفاف الخلقي ويركّزون على ظاهر الإسلام، ويزهدون في باطنه، وهم أزهد الناس في اللين الخلقي، والرقة في السلوك، والمجاملة في السيرة، وتبادل التحيات والأدعية بمثلها. وعندما ظَهَرَ لي السببُ بَطَلَ منّي العجبُ، وقلتُ: لاغرو إذا كان الرجلُ مُصِرًّا على جفافه، وحذره من أن يصدر منه سلوكٌ ليّنٌ يشفّ – لا قَدَّرَ الله ! – عن عدم ولائه الصادق لمذهبه الفكري!.

       شيءٌ ثمينٌ جدًّا أن يُوافقك رجلٌ في العقيدة والدين، والعواطف والأفكار، ولايَتَنَكَّر لتعاليم الدين الذي ينتمي إليه؛ فلا بدّ أن تمنحه الاحترامَ اللائقَ والتقديرَ الذي يستحقّه، وأن تدعو ربّك أن يديمه على ما هو عليه ما تطول به الحياة.

 

(تحريرًا في الساعة 5، من مساء يوم الثلاثاء:يوم السبتاللائقَ والتقديرَ الذي يستحقّه، وأن تدعو ربّك أن يديمه على ما هو عليه ما تطول به الحياة. ينتمي إليه؛ فلا بدّ أن تمنحه 13/صفر1427هـ = 14/مارس2006م)

أبو أسامة نور

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.